استهلال ( لــمــاذا نخــتــلف ؟ )

المقال

استهلال ( لــمــاذا نخــتــلف ؟ )

2530 | 09/10/2009

بســـم اللــــه الرحمــــن الرحيـــم

الحمد لله الذي عصم كتابه من التضاد والاختلاف ( ولوكان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمد الذي تركنا على المحجة البيضاء الواضحة النقية ، التي ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها الا هالك .
أما بعـد :
فمن أعظم نعم الله علينا أن أتمّ لنا هذا الدين ، وبينه بأكمل ما يتم به التبيين ، وأبعد عنه الأوهام والظنون والتخمين ، قال تعالى ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة للمسلمين ) .
فهذه سلسلة موجزة حاولت أن ألملم فيها أطراف موضوع مهم ، يعنى هذا الموضوع بردم الهوة ، ورأب الصدع الذي متى ما أعرض عنه ازداد تعمقا وتجذرا وتأثيرا سلبيا على الأمة الإسلامية ، ومتى ما تناوله طلاب العلم والعلماء بالبحث والتأصيل والبيان فسيكون بذلك الدواء الناجع ،وسيخفف عن العلم والعلماء والمتعلمين صنوفا من المواجع ، وسيرجع الود بين المتخالفين فأنعم به من راجع ،
فماهو هذا الموضوع المهم ؟ وما هو ذلك الداء الملم ؟
فأقول : الموضوع هو فقه أدب الخلاف ، والمرض هو التباغض والتراشق و التجاف .
فأحببت أن أكتب فيه جملا من الضوابط ، لعلها أن تعيد للمتخاصمين الروابط .
والمتأمل في كتابات من كتب في هذا الموضوع يجد أن في أكثرها خروجا عن الحديث عن الآداب بخصوصها ، فيجعلون حديثهم شاملا لجميع أبواب الاختلاف من : أسباب وأنواع وغيرها . مع أنها معنون لها بأدب الخلاف .
فأردت هنا أن أخصص الحديث عن الآداب والضوابط المرعية ، عند الاختلاف في القضايا الشرعية ، وأكثرت من ضرب الأمثلة التي تكشف لنا طريقة سلفنا الصالح من صحابة وتابعين ومن بعدهم ممن سار على نهجهم من العلماء الراسخين ، لعلنا من خلال تلك الأمثلة أن نستفيد دروسا من تجارب القوم ، فتكون لنا سراجا ينير لنا الطريق :
وتشبهوا أن لم تكونوا مثلهم :: إن التشبه بالكرام فلاح .
وسأبدأ بإيقاظ ، ثم أدخل إلى صلب الموضوع ، والله المستعان وعليه التكلان .

:::::::::::::::::::::::::::

**إيقــــــاظ :
الخلاف والاختلاف أمر كوني قدري ، قدره الله على الناس ، ولعل السبب المؤدي إلى وقوع الخلاف من البشر يمكن حصره في أمرين:
الأمر الأول : أن الله تعالى هو خالق الأفهام والعقول والألباب ، وغرسها في النوع الإنساني ، حيث إن الإنسان مكون من مادتين العقل والشهوة ، خلقهما تعالى في الإنسان ،
فبهذا خالف الإنسان الملائكة والحيوانات ، فالملائكة عقول بلا شهوات نزوات ، والحيوانات شهوات بلا عقول ، أما الإنسان هو مركب من العقل والشهوة
اجتمع فيه ما افترق في غيره من المخلوقات ، والجمع له بين هاتين المادتين إنما هو من باب الابتلاء والامتحان ( و نبلوكم بالشر والخير فتنة ) ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ومن خلال العقل والشهوة يكون الإنسان مهيئا لحفظ الأمانة التي أمنه الله عليها قال تعالى ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) ولعل الظلم هو في عدم ضبطه لشهوات نفسه فيكون ظالما لها , والجهل هو عدم تعاطيه الأسباب التي تنمي عقله بالمعلومات النافعة وتحفظ هذا العقل وما فيه من المعلومات من الخطأ والسهو والنسيان ، وتكوّن حول عقل الإنسان سياجا منيعا وحصنا حصينا يقيه من سهام الشبهات ، التي متى ما وجدت الطريق إلى عقل الإنسان تغلغلت فيه ، فإذا أشربها القلب أصبحت هي المحرك له والموجه ، فيقع الإنسان حينئذ في الانحراف الفكري وتصدر عنه الآراء الفاسدة الظاهرة الفساد وهذا الخلاف من أخطر أنواع الخلاف ، كيف لا ؟ وصاحب هذا العقل إنما يتحرك على ضوء ما تمليه له الشبهات والتي يعدها العلماء أنها أشد الأدواء التي تفتك في العقول ، فكما أن الشهوة تقضي على القلب ، فالشبهة تقضي على العقل ، فتخرجه عن دائرة الصحة إلى دائرة المرض ، ويزداد الاختلاف سوءا وقبحا وبعدا عن الحق عندما تتوارد عليه مع الشبهات الشهوات ، فيزداد الأمر تعقيدا فيصبح مع الداء داء ، وبدلا من العدو الواحد أعداء ، فهذا النوع من الخلاف ـ أعني ما اجتمع فيه الشبهة والشهوة ـ من أخطر أنواع الاختلاف ، ولا يستحق صاحبه إلا الجفاء والهجر والإسفاف ، فلا ينفع مع هذا أدب ، بل ينجع فيهالتأديب ، وهذا ما سنه الخليفة الأريب ، عندما داوى بدرّته صاحب هذا المسلك فنعم الدواء ونعم الطبيب ، وهذا الخلاف باطل سواء كان في أصول الدين أو حتى في فروعه ، فهو مبني على باطل ، وما بني على باطل فهو باطل ،

ويقرر شيخ الإسلام هذا المبدأ مع أحد معاصريه ممن خالف في أصول الدين وليس لديه أي مستند شرعي أو عقلي وإنما الشبهة والشهوة ، فبين كيف يتعامل مع أمثال ذلك فيقول : " رأيت أن مثل هذا لا يخاطب خطاب العلماء وإنما يستحق التأديب البليغ، والنكال الوجيع الذي يليق بمثله من السفهاء إذا سلم من التكفير فإنه لجهله ليس له خبرة بالأدلة الشرعية التي تتلقى منها الأحكام، ولا خبرة بأقوال أهل العلم الذين هم أئمة أهل الإسلام بل يريد أَنْ يتكلم بنوع مشاركة في فقهٍ، وأصول، وتصوف، ومسائلَ كبار، بلا معرفة، ولا تعرُّف، والله أعلم بسريرته، هل هو طالب رياسةٍ بالباطل، أو ضالٍّ يشبه الحالي بالعاطل، أو اجتمع فيه الأمران وما هو من الظالمين ببعيد" اهـ.


أما العقل المجرد عن داء الشبهة والشهوة ، وهو العقل الصحيح السليم فلم يكن بمنئ عن الاختلاف ، حيث إن الله تعالى لما خلق العقول لم يجعلها على درجة واحدة من الفهم ، بل جعلها متفاوتة ، فلما خلقها متفاوتة وهذا التفاوت في الأفهام سبب في الاختلاف ، علمنا أن الخلاف واقع .
وهذا الخلاف الصادر عن العقل الصحيح السليم من الشهوة و الشبهة ، يستحق أن يبقى معه الود والأخوة والاحترام ، وأن لا يتحول إلى التباغض والاحتدام .
*************
الأمر الثاني : أن الله تعالى خاطبنا بهذا الدين بلسان عربي مبين ، وجعل اللغة العربية هي الوعاء الذي أوصل لنا المطلوبات الشرعية ، ومعلوم أن اللغة العربية والتي نزل فيها القران تتفاوت ألفاظها ـ مفردات ومركبات ـ حيث فيها الألفاظ الواضحة وضوحا تاما بحيث لا تحتمل الا معنى واحد ، ولا تختلف فيها العقول العارفة بلغة العرب ، كما أن هناك ألفاظاً أخرى تعارف العرب على استعمالها لأكثر من معنى ، فهذا النوع من الألفاظ تتوارد عليه الاحتمالات ، مما يؤدي إلى الاختلاف في تحديد المراد، فإذا ورد هذا النوع في النص الشرعي ، فإن الأفهام قد تتفاوت في إدراك المعنى المراد ، فكل ناظر يتضح له معنى مبني على دليل فيقع حينئذ الاختلاف لتفاوت درجة الوضوح .
ولما خاطبنا الشارع الحكيم بالألفاظ المحتملة التي لاتحسم النزاع والاختلاف عرفنا من ذلك الإقرار الشرعي على الخلاف ، إذ لو كان منكراً شرعا لحسم الشارع مادته ، ولما خوطبنا إلا بالألفاظ الواضحة التي لا تختلف فيها الأفهام لكن الأمر خلاف ذلك ، فنصوص الشرع فيها القاطع وفيها المحتمل ، بل وفيها الخفي الدلالة ـ كما هو مقرر في علم أصول الفقه ـ والفائدة من هذا التفاوت في الدلالات ما رتبه الله تعالى من الأجر العظيم للمجتدين على اجتهادهم في استنباط الأحكام الشرعية أيّاً كان لفظها التي وردت فيه .
فالحاصل : أن ثمة أمرين : تفاوت العقول والأفهام ، وتفاوت ألفاظ نصوص الأحكام ، وأحدهما يكفي في تسويغ الاختلاف ، فلما اجتمع صار التسويغ من باب أولى .
وقد بين الله تعالى أن المجتهدين قد يقع منهم الاختلاف فقال عز وجل : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) وقال تعالى ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) فلما قرر الشرع وجود النزاع والخلاف جعل الحاكم والفاصل للمنازعات والاختلافات هو الكتاب والسنة ، فالمندوحة من هذا التفاوت في الألفاظ و الأفهام إنما تكون بالموافقة والقرب من الدليل فيرجح على ما بعد عنه .
فيتحصل أن الخلاف أنما هو في نظر المجتدين فقط ، أما في نفس الأمر فحكم الله تعالى لاتنازع فيه ولا اختلاف وهذا ما يفهم من الآيتين السابقتين إذ كيف يقول تعالى ( فإن تنازعتم ) ( وما اختلفتم ) ثم يحيل إلى مختلف ومتنازع ؟ فدل على أن حكم الله واحد لا مختلف .
وأصرح دلالة قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ) فجعله مأجوراً حتى حال خطئه دليل على تسويغ ذلك الخلاف منه ، وترتيب الأجر عليه قد يدل على كونه مشروعا ولكن ليس لذاته بل لكونه نتيجة ملازمة للاجتهاد المشروع اتفاقاً .
إذا تقرر لنا تسويغ الخلاف ، فندلف الآن إلى ركني الموضوع الذين لا ينفك أحدهما عن الآخر ؛ فأحدهما مترتب على الآخر :
الأول : الخلاف الحري بالأدب .
(س:بماذا نختلف ؟)
الثاني : الأدب الحري بالخلاف .
(س:كيف نختلف ؟)
وفي ثنايا كل منهما نماذج مضيئة لتعامل سلفنا الصالح في هذا الموطن .
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

جديد المقالات

موقع أصول الفقه