القائمة الرئيسية
الزوار
يتصفح الموقع حالياً 63
تفاصيل المتواجدون
احصائية الزوار
لهذا اليوم : 37
بالامس : 296
لهذا الأسبوع : 776
لهذا الشهر : 4676
لهذه السنة : 4675
منذ البدء : 2386300
ما قبل التدوين ..
المقال
ما قبل التدوين ..
6046 |
08/10/2009
**تمهـــيد**
منذ نزول أول دليل شرعي بدأت نشأة علم الأصول فهو مرتبط بالدليل منذ أول وهْلة، فقوله تعالى: ( إقرأ ) خطاب متعلق بفعل المكلف , وقد كان استنباطه بدهياً عند الأوائل قبل تدوينه ، فكانوا يعرفونه بالسليقة العربية والفطرة ومما يعرفه العرب الأقحاح - كالنحو- ولعلنا نقسم النشأة لفهمها إلى جانبين :
الجانب الأول : ( ما قبل التدوين )
ولرصد هذا الجانب نجعله في ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى : عصر النبوة : فهذه صور ترسم لنا ذلك على سبيل المثال:
· قصة الصحابي الذي جاء إلى عمر وقال له : مستدلاً بقـوله تعالى : ( ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفـتنكم ) ما بالنا نقصر وقد أمنَا ؟ فراجعا النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهما هذا الاستدلال بالقاعدة الأصولية بل قال: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) .
· قصة المشرك القائل للنبي صلى الله عليه وسلم ألم يقل الله ( إنكم وما تعبدون .... ) فناقش مستندا بقاعدة العموم حيث تشمل كل ما عبد من دون الله كالملائكة والأنبياء التي عبدت من دون الله فأنزل الله الآيات التي بعدها (( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون )) فأخرجهم من هذا العموم ، ولم ينكر الاستدلال بالعموم . بل جاء بقاعدة أصولية وهي التخصيص .
· قصة الصحابي المذنب الذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) فقال أحدهم ألهذا خاصة أم للناس عـــــامة فقال عليه السلام ( بل للناس عامة ) وهذا استدلال بقضايا أصولية .
· أيضاً قصة القُُبلة هل تفطر أم لا , حين سأل عمرُ النبي صلى الله عليه وسلم فقاس المصطفى القٌبلة على المضمضة فاستخدم دليل القياس . وهناك أمثلة كثيرة تدلنا على تطبيقات علم الأصول في عصر النبوة قبل التدوين .
المرحلة الثانية : عصر الصحابة – بعد وفاته عليه الصلاة و السلام –
بعد وفاته عليه الصلاة والسلام توسعت مباحث الأصول حيث زيد دليل الإجماع والقياس وقول الصحابي ..ولما توسعت الفتوحات انتشر الصحابة في الأمصار مما مهّد الطريق لإنشاء جامعتين :
الجامعة الأولى : (( جامعة الحديث )) : برئاسة ابن عمر رضي الله عنه يغلِبون جانب الحديث ويهمشون الرأي
الجامعة الثانية : (( جامعة الرأي )) : تنسب إلى ابن مسعود رضي الله عنه-كما نـبه الذهبي-، يعتنون كثيراً بالاستنباط والرأي والقياس على نصوص الوحيين .
** مقر جامعة الحديث : المدينة والحجاز ، واقتصارهم على الحديث والأثر في معرفة الأحكام إنما يعود للثروة الهائلة من الأحاديث والآثار النبوية التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا أشكل عليهم حكم في البيوع - مثلا – قالوا اذهبوا لفلان فإنه باع منه النبي الكر يم صلى الله عليه وسلم ، أو عنده أحاديث في البيوع ، أوالصلاة والحج والطهارة وغيرها ، أو ما كان من أحكام الأسرة فإنهم يرجعون إلى أمهات المؤمنين في ذلك .
زد على ذلك أن أصحاب هذه الجامعة لم يكن عندهم اهتمام في تفتيق المسائل ، وتفريعها والبحث فيما لم يقع من الحوادث بل كانوا يمنعون من الخوض في هذا النوع فيسأل أحدهم عن المسألة فيقول للسائل هل وقعت فإذا قال لا لم يجبه ، وعندما جاء ذلك السائل إلى ابن عمر رضي الله عنه ، فأخذ يقول له : أرأيت أرأيت فقال له ابن عمر : دع أرأيت في اليمن ، حتى صاروا يسمون اهل الرأي (الأرأيتيون ) .
وقد كان لدى هذه الجامعة التسليم المطلق للحديث النبوي وعدم معارضته بقياس أو رأي : من ذلك أن عمران بن حصين رضي الله عنه حدث بحديث ( الحياء خير كله أو كله خير ) فقال رجل : إنا نجد في الكتب أو الحكمة : أنه وقارا وسكينة من الله ومنه ضعف ، -فكرر ذلك – فغضب عمران واحمرت عيناه رضي الله عنه وقال : لا أراني أحدثك عن رسول الله فتعارض فيه .
ولما حدث أبو هريرة رضي الله عنه بحديث الوضوء مما مست النار ، قال له ابن عباس رضي الله عنهما : ألسنا نتوضأ بالماء الحميم فكيف نتوضأ بما عنه نتوضأ ، فقال ابو هريرة : يابن أخي إذا حدثتك الحديث فلا تضرب له الأمثال .
وكانوا ينهون عن اتخاذ منهج وطريق الرأي يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ) ولكن يحمل قول عمر على الرأي المخالف للدليل والمبني على الهوى أما الرأي المبني على الدليل فقد أيده عمر رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى الأشعري : ( اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور برأيك ) .
ويقول علي رضي الله عنه : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه .
وأما جامعة الرأي فكانت في العراق ويترأسها الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه ، وذلك أن عمر قد بعثه إلى الكوفة لتعليم الناس هناك ، وقد كان ابن مسعود متأثرا بعلم وفقه عمر رضي الله عنهم جميعا ، حتى قال : إن عمر ذهب بتسعة أعشار العلم .
والتنوع الكبير بين الناس واختلاط المسلمين بغيرهم ودخول غير العرب في الإسلام وما لديهم من تراكمات من عقائدهم وحضاراتهم الماضية ، كل هذه العوامل أدت إلى كثرة الحوادث والنوازل التي تحتاج إلى أحكام شرعية ، ومن هنا كان لزاماً على اصحاب هذه الجامعة أن يعنوا عناية فائقة في مثل هذا النوع من المسائل ، دراسة وبحثاً وتأصيلاً ، كي تعطى الحكم الشرعي المناسب لها .
وجدت هذه الجامعة أن الأدلة محصورة والنوازل غير محصورة وأن الأدلة لم تنص على كل النوازل دلالة لفظية ، ولتغطية تلك النوازل فنحن نحتاج إلى التوسع بالدلالة القياسية لتغطية تلك الحوادث
زد على ذلك أن ما كان في العراق من عقائد وثقافات متنوعة وانتشار ونشوء وبداية تكون البدع : كبدعة الرفض وبدعة القدر والاعتزال والخوارج التي تكونت بذرتها الاولى من بلاد العراق - ويبدو لي أن السبب في ذلك هو المكان الجغرافي لهذا البلد حيث يعتبر كالبوابة وكالحاجز الذي تتكسر عليه سهام الحضارات المخالفة للإسلام و التي تستهدف الجزيرة العربية – فهذا العامل نشأ عنه انتشار الكذب وكثرة الوضع في الحديث مما جعل أصحاب هذه الجامعة على حيطة وحذر في قبول أي حديث صيانة من أن ينسبوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما ليس من سنته ، وهذا يسهم ولا شك في قلة الثروة الحديثية عندهم ، وعدم توسعهم في الحديث .
ويبين الامام ابن القيم أن كلتا الجامعتين على خير وأن لهما سلف من عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي حديث : ( لايصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريضة ) ففريق من الصحابة لم يصل العصر إلا في بني قريضة بعد أن غربت الشمس ، والفريق الآخر منهم صلى في الوقت قبل الوصول الى بني قريضة ، فذكر ابن القيم : أن الفريق الأول : هم سلف أهل الظاهر ، والفريق الثاني : هم سلف أهل المعاني والرأي والقياس .
المرحلة الثالثة : عصر التابعين – بعد انتهاء عصر الصحابة رضي الله عنهم - :
تعد هذه المرحلة امتداداً لمرحلة الصحابة ، حيث إن كل جامعة من الجامعتين استلم زعامة التدريس فيها أبنا بررة وتلاميذ نجباء تتلمذوا ونهلوا من معين علم الصحابة الكرام ، بعيدا عن شوائب البدع والمحدثات التي ازدادت بشكل قوي وهائل ، لكن أصحاب هاتين الجامعتين تمسكوا بما أفادوه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، سواء في الاعتقاد أو في فروع الفقه ، فالحمد للـه .
أولاً : جامعة الحديث : وترأسها الإمام مالك بن أنس ، إمام دار الهجرة ، وهو تلميذ نافع تلميذ و مولى ابن عمر رضي الله عنهم ،واستمرت الجامعة على ما كانت عليه من تمسك بالحديث وترك وبعد عن الرأي ، يقول سفيان الثوري : ان استطعت الا تحك رأسك إلا بسنة فافعل . ، وسئل مالك أنحرم من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال مالك للسائل : أخشى عليك من الفتنة ، فقال : إنما هي أميال أزيدها ، قال مالك : وأي فتنة أعظم من أن ترى إنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله ، إني سمعت الله يقول : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ) الآية . وذكر الشافعي حديثاً فقال أحد تلامذته : أتأخذ به ؟ فقال الشافعي : أتراني خرجت من كنيسة ، أو علي زنارا حتى لا أقول به ) .
لم يكن تواجد أصحاب هذه الجامعة في الحجاز فحسب بل انتشر أتباعها في شتى الأمصار يقول عبد الرحمن بن مهدي : أئمة الحديث الذين يقتدى بهم أربعة : سفيان الثوري بالكوفة ، ومالك بالحجاز ، و الأوزاعي بالشام ، وحماد بن زيد بالبصرة .
وقد ازدادت هذه الجامعة قوة وتأصيلا حتى أصبحت مهيأة لتدوين وتصنيف الصحاح والسنن .
ثانياً : جامعة الرأي : وتولى إمامتها الإمام أبو حنيفة ، قال الشافعي : الفقهاء عيال في الفقه على أبي حنيفة ، وقال الذهبي : منتهى الإمامة في الفقه لأبي حنيفة . ودخل أبو حنيفة على المنصور فقيل للمنصور هذا عالم الدنيا اليوم فقال له المنصور : عمن أخذت العلم؟ قال : عن أصحاب عمر عن عمر ، وعن أصحاب علي عن علي وعن أصحاب ابن عباس عنه .
استمرت هذه الجامعة على منهج الرأي والتعمق في تفريع المسائل ، وعرف ابو حنيفة بكثرة اجتهاده وأخذه بالقياس ، متأثرا بشيوخه الذين اخذ عنهم ، حيث اخذ عن حماد بن سليمان الذي انتهت اليه في عصره الرياسة في الفقه في العراق ، وكذا عن إبراهيم النخعي احد أعمدت جامعة الرأي والذي يرسم طريقة أهل جامعة الرأي فيما يتعلق بمرجعهم عند اختلاف الصحابة فيروى عنه أنه كان لا يعدل بقول عمر وابن مسعود إذا اجتمعا ، فإذا اختلفا كان قول عبد الله أعجب ، لأنه كان ألطف .
إيقـاظ :
استمرت كل جامعة تسير بالمسار الخاص بها ، ولو أنه في بعض الأحيان تحصل مناظرات بين الجامعتين ، ونجد أن كبار أئمة كل جامعة كانت لديهم عناية بما يدور في أروقة الجامعة الأخرى وما يصدر عنها من فتاوى ، بدأ من أبي يوسف - صاحب أبي حنيفة – والذي ناظر أهل الحديث عند أدائه للحج فرجع في بعض فتاواه وبين أن إمام جامعته أبا حنيفة لو سمع بعض ما سمعه هو من أهل الحديث لرجع عن بعض فتاواه ، وإمام الحديث مالك كان لديه اهتمام ومعرفة بفقه اهل العراق وفتاوى أبي حنيفة في المسائل الخلافية حيث أفادها من خلال تتلمذه على ربيعة بن عبدالرحمن والذي كان يسمى ربيعة الرأي مع أنه من الحديث ، وكذا الإمام أحمد كانت لديه عناية في مطالعة كتب محمد بن الحسن ،
ومع هذا الاهتمام البسيط من كل جامعة بالأخرى لم تكن الفرصة مهيأة للتوصل الى تدوين وتقعيد علم أصول الفقه ، كيف لا وكل جامعة لا تزال شبه منغلقة على نفسها ، ومتحيزة لمنهجها الفقهي الاستنباطي ، وكما قيل المتحيز لا يميز ، بمعنى انه لن تكون لديه النظرة القوية والواسعة والتي يجتمع فيها التمسك بصحيح المنقول مع صحيح المعقول .
إن جامعة الحديث وحدها أو الرأي وحدها لا تستطيع النهوض بعلم أصول الفقه الذي لابد فيه من اجتماع ركني المعرفة النقل والعقــل
منذ نزول أول دليل شرعي بدأت نشأة علم الأصول فهو مرتبط بالدليل منذ أول وهْلة، فقوله تعالى: ( إقرأ ) خطاب متعلق بفعل المكلف , وقد كان استنباطه بدهياً عند الأوائل قبل تدوينه ، فكانوا يعرفونه بالسليقة العربية والفطرة ومما يعرفه العرب الأقحاح - كالنحو- ولعلنا نقسم النشأة لفهمها إلى جانبين :
الجانب الأول : ( ما قبل التدوين )
ولرصد هذا الجانب نجعله في ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى : عصر النبوة : فهذه صور ترسم لنا ذلك على سبيل المثال:
· قصة الصحابي الذي جاء إلى عمر وقال له : مستدلاً بقـوله تعالى : ( ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفـتنكم ) ما بالنا نقصر وقد أمنَا ؟ فراجعا النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهما هذا الاستدلال بالقاعدة الأصولية بل قال: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) .
· قصة المشرك القائل للنبي صلى الله عليه وسلم ألم يقل الله ( إنكم وما تعبدون .... ) فناقش مستندا بقاعدة العموم حيث تشمل كل ما عبد من دون الله كالملائكة والأنبياء التي عبدت من دون الله فأنزل الله الآيات التي بعدها (( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون )) فأخرجهم من هذا العموم ، ولم ينكر الاستدلال بالعموم . بل جاء بقاعدة أصولية وهي التخصيص .
· قصة الصحابي المذنب الذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) فقال أحدهم ألهذا خاصة أم للناس عـــــامة فقال عليه السلام ( بل للناس عامة ) وهذا استدلال بقضايا أصولية .
· أيضاً قصة القُُبلة هل تفطر أم لا , حين سأل عمرُ النبي صلى الله عليه وسلم فقاس المصطفى القٌبلة على المضمضة فاستخدم دليل القياس . وهناك أمثلة كثيرة تدلنا على تطبيقات علم الأصول في عصر النبوة قبل التدوين .
المرحلة الثانية : عصر الصحابة – بعد وفاته عليه الصلاة و السلام –
بعد وفاته عليه الصلاة والسلام توسعت مباحث الأصول حيث زيد دليل الإجماع والقياس وقول الصحابي ..ولما توسعت الفتوحات انتشر الصحابة في الأمصار مما مهّد الطريق لإنشاء جامعتين :
الجامعة الأولى : (( جامعة الحديث )) : برئاسة ابن عمر رضي الله عنه يغلِبون جانب الحديث ويهمشون الرأي
الجامعة الثانية : (( جامعة الرأي )) : تنسب إلى ابن مسعود رضي الله عنه-كما نـبه الذهبي-، يعتنون كثيراً بالاستنباط والرأي والقياس على نصوص الوحيين .
** مقر جامعة الحديث : المدينة والحجاز ، واقتصارهم على الحديث والأثر في معرفة الأحكام إنما يعود للثروة الهائلة من الأحاديث والآثار النبوية التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا أشكل عليهم حكم في البيوع - مثلا – قالوا اذهبوا لفلان فإنه باع منه النبي الكر يم صلى الله عليه وسلم ، أو عنده أحاديث في البيوع ، أوالصلاة والحج والطهارة وغيرها ، أو ما كان من أحكام الأسرة فإنهم يرجعون إلى أمهات المؤمنين في ذلك .
زد على ذلك أن أصحاب هذه الجامعة لم يكن عندهم اهتمام في تفتيق المسائل ، وتفريعها والبحث فيما لم يقع من الحوادث بل كانوا يمنعون من الخوض في هذا النوع فيسأل أحدهم عن المسألة فيقول للسائل هل وقعت فإذا قال لا لم يجبه ، وعندما جاء ذلك السائل إلى ابن عمر رضي الله عنه ، فأخذ يقول له : أرأيت أرأيت فقال له ابن عمر : دع أرأيت في اليمن ، حتى صاروا يسمون اهل الرأي (الأرأيتيون ) .
وقد كان لدى هذه الجامعة التسليم المطلق للحديث النبوي وعدم معارضته بقياس أو رأي : من ذلك أن عمران بن حصين رضي الله عنه حدث بحديث ( الحياء خير كله أو كله خير ) فقال رجل : إنا نجد في الكتب أو الحكمة : أنه وقارا وسكينة من الله ومنه ضعف ، -فكرر ذلك – فغضب عمران واحمرت عيناه رضي الله عنه وقال : لا أراني أحدثك عن رسول الله فتعارض فيه .
ولما حدث أبو هريرة رضي الله عنه بحديث الوضوء مما مست النار ، قال له ابن عباس رضي الله عنهما : ألسنا نتوضأ بالماء الحميم فكيف نتوضأ بما عنه نتوضأ ، فقال ابو هريرة : يابن أخي إذا حدثتك الحديث فلا تضرب له الأمثال .
وكانوا ينهون عن اتخاذ منهج وطريق الرأي يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ) ولكن يحمل قول عمر على الرأي المخالف للدليل والمبني على الهوى أما الرأي المبني على الدليل فقد أيده عمر رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى الأشعري : ( اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور برأيك ) .
ويقول علي رضي الله عنه : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه .
وأما جامعة الرأي فكانت في العراق ويترأسها الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه ، وذلك أن عمر قد بعثه إلى الكوفة لتعليم الناس هناك ، وقد كان ابن مسعود متأثرا بعلم وفقه عمر رضي الله عنهم جميعا ، حتى قال : إن عمر ذهب بتسعة أعشار العلم .
والتنوع الكبير بين الناس واختلاط المسلمين بغيرهم ودخول غير العرب في الإسلام وما لديهم من تراكمات من عقائدهم وحضاراتهم الماضية ، كل هذه العوامل أدت إلى كثرة الحوادث والنوازل التي تحتاج إلى أحكام شرعية ، ومن هنا كان لزاماً على اصحاب هذه الجامعة أن يعنوا عناية فائقة في مثل هذا النوع من المسائل ، دراسة وبحثاً وتأصيلاً ، كي تعطى الحكم الشرعي المناسب لها .
وجدت هذه الجامعة أن الأدلة محصورة والنوازل غير محصورة وأن الأدلة لم تنص على كل النوازل دلالة لفظية ، ولتغطية تلك النوازل فنحن نحتاج إلى التوسع بالدلالة القياسية لتغطية تلك الحوادث
زد على ذلك أن ما كان في العراق من عقائد وثقافات متنوعة وانتشار ونشوء وبداية تكون البدع : كبدعة الرفض وبدعة القدر والاعتزال والخوارج التي تكونت بذرتها الاولى من بلاد العراق - ويبدو لي أن السبب في ذلك هو المكان الجغرافي لهذا البلد حيث يعتبر كالبوابة وكالحاجز الذي تتكسر عليه سهام الحضارات المخالفة للإسلام و التي تستهدف الجزيرة العربية – فهذا العامل نشأ عنه انتشار الكذب وكثرة الوضع في الحديث مما جعل أصحاب هذه الجامعة على حيطة وحذر في قبول أي حديث صيانة من أن ينسبوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما ليس من سنته ، وهذا يسهم ولا شك في قلة الثروة الحديثية عندهم ، وعدم توسعهم في الحديث .
ويبين الامام ابن القيم أن كلتا الجامعتين على خير وأن لهما سلف من عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي حديث : ( لايصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريضة ) ففريق من الصحابة لم يصل العصر إلا في بني قريضة بعد أن غربت الشمس ، والفريق الآخر منهم صلى في الوقت قبل الوصول الى بني قريضة ، فذكر ابن القيم : أن الفريق الأول : هم سلف أهل الظاهر ، والفريق الثاني : هم سلف أهل المعاني والرأي والقياس .
المرحلة الثالثة : عصر التابعين – بعد انتهاء عصر الصحابة رضي الله عنهم - :
تعد هذه المرحلة امتداداً لمرحلة الصحابة ، حيث إن كل جامعة من الجامعتين استلم زعامة التدريس فيها أبنا بررة وتلاميذ نجباء تتلمذوا ونهلوا من معين علم الصحابة الكرام ، بعيدا عن شوائب البدع والمحدثات التي ازدادت بشكل قوي وهائل ، لكن أصحاب هاتين الجامعتين تمسكوا بما أفادوه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، سواء في الاعتقاد أو في فروع الفقه ، فالحمد للـه .
أولاً : جامعة الحديث : وترأسها الإمام مالك بن أنس ، إمام دار الهجرة ، وهو تلميذ نافع تلميذ و مولى ابن عمر رضي الله عنهم ،واستمرت الجامعة على ما كانت عليه من تمسك بالحديث وترك وبعد عن الرأي ، يقول سفيان الثوري : ان استطعت الا تحك رأسك إلا بسنة فافعل . ، وسئل مالك أنحرم من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال مالك للسائل : أخشى عليك من الفتنة ، فقال : إنما هي أميال أزيدها ، قال مالك : وأي فتنة أعظم من أن ترى إنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله ، إني سمعت الله يقول : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ) الآية . وذكر الشافعي حديثاً فقال أحد تلامذته : أتأخذ به ؟ فقال الشافعي : أتراني خرجت من كنيسة ، أو علي زنارا حتى لا أقول به ) .
لم يكن تواجد أصحاب هذه الجامعة في الحجاز فحسب بل انتشر أتباعها في شتى الأمصار يقول عبد الرحمن بن مهدي : أئمة الحديث الذين يقتدى بهم أربعة : سفيان الثوري بالكوفة ، ومالك بالحجاز ، و الأوزاعي بالشام ، وحماد بن زيد بالبصرة .
وقد ازدادت هذه الجامعة قوة وتأصيلا حتى أصبحت مهيأة لتدوين وتصنيف الصحاح والسنن .
ثانياً : جامعة الرأي : وتولى إمامتها الإمام أبو حنيفة ، قال الشافعي : الفقهاء عيال في الفقه على أبي حنيفة ، وقال الذهبي : منتهى الإمامة في الفقه لأبي حنيفة . ودخل أبو حنيفة على المنصور فقيل للمنصور هذا عالم الدنيا اليوم فقال له المنصور : عمن أخذت العلم؟ قال : عن أصحاب عمر عن عمر ، وعن أصحاب علي عن علي وعن أصحاب ابن عباس عنه .
استمرت هذه الجامعة على منهج الرأي والتعمق في تفريع المسائل ، وعرف ابو حنيفة بكثرة اجتهاده وأخذه بالقياس ، متأثرا بشيوخه الذين اخذ عنهم ، حيث اخذ عن حماد بن سليمان الذي انتهت اليه في عصره الرياسة في الفقه في العراق ، وكذا عن إبراهيم النخعي احد أعمدت جامعة الرأي والذي يرسم طريقة أهل جامعة الرأي فيما يتعلق بمرجعهم عند اختلاف الصحابة فيروى عنه أنه كان لا يعدل بقول عمر وابن مسعود إذا اجتمعا ، فإذا اختلفا كان قول عبد الله أعجب ، لأنه كان ألطف .
إيقـاظ :
استمرت كل جامعة تسير بالمسار الخاص بها ، ولو أنه في بعض الأحيان تحصل مناظرات بين الجامعتين ، ونجد أن كبار أئمة كل جامعة كانت لديهم عناية بما يدور في أروقة الجامعة الأخرى وما يصدر عنها من فتاوى ، بدأ من أبي يوسف - صاحب أبي حنيفة – والذي ناظر أهل الحديث عند أدائه للحج فرجع في بعض فتاواه وبين أن إمام جامعته أبا حنيفة لو سمع بعض ما سمعه هو من أهل الحديث لرجع عن بعض فتاواه ، وإمام الحديث مالك كان لديه اهتمام ومعرفة بفقه اهل العراق وفتاوى أبي حنيفة في المسائل الخلافية حيث أفادها من خلال تتلمذه على ربيعة بن عبدالرحمن والذي كان يسمى ربيعة الرأي مع أنه من الحديث ، وكذا الإمام أحمد كانت لديه عناية في مطالعة كتب محمد بن الحسن ،
ومع هذا الاهتمام البسيط من كل جامعة بالأخرى لم تكن الفرصة مهيأة للتوصل الى تدوين وتقعيد علم أصول الفقه ، كيف لا وكل جامعة لا تزال شبه منغلقة على نفسها ، ومتحيزة لمنهجها الفقهي الاستنباطي ، وكما قيل المتحيز لا يميز ، بمعنى انه لن تكون لديه النظرة القوية والواسعة والتي يجتمع فيها التمسك بصحيح المنقول مع صحيح المعقول .
إن جامعة الحديث وحدها أو الرأي وحدها لا تستطيع النهوض بعلم أصول الفقه الذي لابد فيه من اجتماع ركني المعرفة النقل والعقــل