مدخل إلى أصول الفقه

المقال

مدخل إلى أصول الفقه

6064 | 02/10/2009
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على حبيبه ومصطفاه وعلى الآل والصحب الكرام وكل من اهتدى بهداه ، وبعـد :
فهذا عرض تاريخي يرصد المراحل والأطوار التي مرّ بها علم أصول الفقه ، مع تسليط الضوء على مواقف دقيقة تفيد في رسم تصور وتصوير جيد لمن يريد الدخول في علم الأصول ، وهو محاولة جريئة لاستخلاص دروس مفيدة من تلك المراحل ،ومحاولة لتطبيق تلك الدروس على ميدان واقعنا اليوم لكي نبقي على حيثيات وتطورات الفكر الأصولي فلا نحيد عنها كيف لا ؟ وهي قد درج عليها كبار فقهاء الأمة بدأ من زمن الصحابة وتابعيهم على مر القرون المفضلة والتي لحقتها ممن ساروا على سبيل وطريق أهل القرون المفضلة في التعامل مع النصوص الشرعية ، وكيفية الاستفادة منها بطرق الاستنباط لكونهم أقوى الناس معرفة وفقهاً لهاً ، كما أن هذا السرد التاريخي يرصد بشيء من التنبيه أهم نقاط التحول والتطور التي أحدتث نقلات نوعية للفكر الأصولي من تراكم معرفي ونمـو مستمر حتى استوى علم الاصول على سوقه واكتمل بناؤه ، مما حدا بأصحاب العلوم التي تتلاقى بعض الشيء مع الأصول بأن يشحنوا الأصول ويثقلوا كاهله بمباحث لا حاجة له ولا لنا إليها ، والأصول بريء مهنا براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام ، كما سيأتي في مفاصل هذا الراصد التاريخي ،
كما أن مما استنتجته بعد هذا الرصد المتأني لتاريخ الأصول أن الفكر الأصولي في عهد النبوة كان أشد قوة وحصانة من الاختلاف لوجود الوحي من كتاب أوسنة حيث كان يصحح ويوضح الحق ويرد ويدفع الخطأ ويبنين ذلك في حينه ، أما بعد وفاة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وانقطاع الوحي وضح اساس البناء لجامعتين سلفيتين سنيتين سليمتين من البدع والأهواء التي كانت تتكسر سهامها في محيطهما دون أن تخترق جدارهما الصلب والمتين المبني على الوحيين الكتاب والسنة وفق قواعد استنباط الصحابة وتابعيهم ، مما جعل نتاجهما صافٍ من الشوائب الفلسفية والكلامية المستمدة من اليونان وغيرهم ،
تلك الجامعتان هما جامعة الحديث وشقيقتها جامعة الرأي ، والتي استمرتا من عهد مؤسسيهما ابن عمر وابن مسعود ومروراً بأبي حنيفة ومالك ، حتى تلاشتا واندمجتا وكان السبب والوحيد في ظني لهذا الاندماج هو تدوين قوانين علم أصول الفقه والذي يعد آخر وأخطر التطورات والنقلات للفكر الاستنباطي ، وذلك لكون الاصول هو مزج لصريح المنقول وصحيح العقول وهما منطلق الجامعتين فلما نظم الأصول هذين الركنين في بوتقة ومظلة واحده استطاع أن يجمع أهل السنة تحت سقفه الواسع ، مع نشوء منهج جديد لدراسة الفقه وهو منج المذاهب الأربعة : الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ، ولازالت هي الطريقة المتبعة في التعاطي للفكر الأصولي إلى زماننا اليوم ، لم تتغير ولم تتبدل مضامينها وإنما كان التغيير لقوالبها التي تصب فيها ، فالمضمون واحد والشكل متغير بتغير الزمان والمكان ، ولم أرَ ما يعتبر تغييراً للمضمون إلا محاولات قليلة ومبدئية للإمام الشاطبي رحمه الله في الاستنباط المقاصدي ، وهو في رأيي يريد سلوك طريق الامام الشافعي الذي نجح فيه بدمج جامعتي الحديث والرأي ، فحاول الشاطبي الدمج بين الحنفية والمالكية بالرجوع إلى المقاصد والغايات والأسرار من التشريع والتي تعد نقاط التقاء عند كل واحد من المذاهب الأربعة ، ولكن لا شك عندي أن الظروف لم ولن تتيح للشاطبي ولا لغيره الظفر بهذا المقصد النبيل ؛ لأن الخلاف ثابت ومستقر في القوانين المنظمة للاستنباط ، وأدلتها متقاربة ومتكافئة في كثير من الأحيان ، ولأن علم الاستنباط المقاصدي- وإلى اليوم- لم يتمكن من بناء نفسه ولم يستقر بعد .
زد على ذلك أن مهمته أصعب من مهمة الامام الشافعي ، لأن الشافعي خفف من حدة الجفاء والخلاف والبعد بين مدرستي الرأي والحديث ، أما الشاطبي فطلبه أدق وأخطر لكونه يسعى لإلغاء وحسم مادة الخلاف وهذا مركب صعب ، من هنا عرفنا مدى تأثير الاستنباط المقاصدي على الفكر الاستنباطي وأنه تأثير محدود ولا يزال يعمل في حدود ضيقة ومن قِبل قليل من الذين غاصوا في أسرار التشريع ولم يجدوا رواجاً لكثير من أطروحاتهم ، والتي تحذر في بعضها من التذرع بهذا الطريق الاستنباطي إلى الانسلاخ من تكاليف هذا الدين ، وفي بعضها تدعو إلى عدم الجمود على الألفاظ أو المعاني الظاهرة والحث على فهم المقصد الشرعي للنصوص الشرعية ، فلعل هذا الارتباك وعدم وضوح الحق من الباطل والسليم من المريض والصحيح من الفاسد أدى هذا التردد إلى التعاطي مع هذا العلم بشيء من الحذر والخشية من الغوص فيه لدرجة كبيرة والبقاء على الطريقة السابقة وهي طريقة الاستنباط الأصولي ففيها السلامة والعصمة من الزلل .
وليس هذا من باب التقليل من أهمية الاستنباط المقاصدي ولا النقد له كطريق لقراءة النص فلست متأهلاً لهذا ولكن هو مجرد بيان للواقع التاريخي كما هو دون زيادة واطراء المادح ، ولا ذم وتهوين القادح ، وهذا المنبغي في أي قراءة للتأريخ فلا تخضع للتدخلات لأنها أمر مضى ورفعت صحائفه وانقضى ، فلو رجعنا إلى نواة الفكر المقاصدي لوجدناها تبدأ كتأصيل على يد العز بن عبدالسلام بحدود ضيقة ثم تابعه الشاطبي فتوسعت الفكرة وكادت تقوم على سوقها ولكن بوفاة الشاطبي اسدل الستار ، وجفت الزروع وانقطعت الثمار ، وبعد سبعة قرون حاول ابن عاشور أن يعيد ويلخص دروس وبحوث الشاطبي في كتاب مع صغر حجمه إلا أن فيه من الكنوز والمعاني الشيء الكثير ، ثم توالت الكتابات والدراسات التي لم تخرج كثيراً عن موافقات الشاطبي وتلميذه المعاصر ابن عاشور ، بل في أكثر أحيانها تصب مادة الكتابين بأسلوب المبحث وتحته مطالب والمطلب وتحته مقاصد ...الخ ، فلم تتدخل بالمضمون والإشكال ، بل في القوالب والأشكال ، وهي طريقة تفيد في التصور لعموميات العلم ولكن لا تفيد كثيراً في تطوير وبناء مباحثه ونقد وتحليل المسائل حتى يتكون من ذلك علم مستقل للاستنباط يوازي علم الأصول ، كما أن بعض الدراسات المعاصرة تناولت كبار مجتهدي الأمة على اختلاف مذاهبهم الفقهية في بيان حالهم مع المقاصد وهذا وإن كان مفيداً نوعاً ما إلا أنه لا يفيد في التقنين لهذا العلم لأن عمل آحاد المجتهدين في قضايا معينه بمقاصد الشريعة لا يعتبر تدعيماً وتقوية للمقاصد ، للاضطراب الذي يحصل منهم في فروع أخر متشابهة ، فلا مزيد قوة للمقاصد في هذا فبقيت ضعيفة ، فمثلاً لو طبق إمام كابن القيم رحمه الله قانوناً مقاصدياً هل هذا التطبيق يصلح دليلاً يعتمد عليه المقصد الشرعي طبعاً لا ؛لأن الحق لا يعرف بالرجال ، فالحاجة أولاً إلى تدعيم الأدلة العامة على كل قانون مقاصدي وقبل ذلك جمع ما يصلح أن يسمى قانوناً مقاصدياً ، ثم عرضها على المذاهب ككل لا على آحاد مجتهدي المذهب الواحد ، فنحتاج إلى معرفة أصول المقاصد عند المذاهب الأربعة –أي محال الاتفاق- ثم إلى تقنين المقاصد عند كل مذهب على حده ، وفرق بين المقاصد عند المذهب ككل ، وبين أحاد مجتهديه ؛فالأول يمكن أن يبني لي مقصداً معتبراً يصلح أن يعرض على الأدلة العامة ويوزن بميزان الشرع المطهر ، ويكون مؤثرأ في الفقه والفروع التي بنيت عليه ،فيتحصل بهذا مصدراً من مصادر الاستنباط من النص، وهذا ما لا يحققه جمع المقاصد المطبقة عند مجتهد بعينه ، والمشكلة في زمننا المعاصر الذي يشهد إقبالاً جيد على هذا الفكر الاستنباطي أن الباحثين فيه توجهوا بقوة إلى الأفراد والآحاد ، وتركوا الكليات التي هي الأولى بالاهتمام لوجهين : الأول : لكونه الأليق بعلم المقاصد الذي يعنى بكليات الشريعة وعموماتها ، والثاني: لكون المقاصد لا زال يعاني من فراغ كبير في كثير من مسائله ،والإشكالات التي لم تجد حلاً لاتزال معلقه ، فلا مندوحة للخروج من تلك الإشكالات والسد لتلك الفراغات إلا بالعناية التامة من قبل كبار مجتهدي الأمة -الذين مارسوا كثيراً وتمرسوا في سبر أعماق النصوص ، وشابت لحاهم في رصد تصرفات الشارع في تشريعه للأحكام ، فعرفوا الحِكم الشرعية ، والعلل المرعية، وخبروا الأدوات المذهبية ،والتخريجات الفقهية – فيقوم من هذا شأنه بوضع قوانين عامة وقواعد هامة ، يمكن البناء عليها ، والاستناد إليها ، ثم تثبت القواعد بأدلة الشرع ، وبهذا يقر لعلم المقاصد القرار ، وتجنى منه أطايب الثمار ، ويميز بين صحيحه وضعيفه ،
وبعدها يليق بالباحثين طرق الموضوعات التي تصب في مكملات البناء ،وتُزينه كتزيين النجوم للسماء ، وكما قيل : " أثبت العرش ثم انقش " .
ولكن وحتى الآن لم يتحقق هذا فأهل هذا العلم قليل جداً فبدأ بالعز ابن عبدالسلام ثم الشاطبي ثم بعده بقرون جاء ابن عاشور ، ويزيد هذا لو تأملنا حال مدارس الاستنباط الأربعة التي هي المسيّر لتطورات الفكر الاستنباطي نجد أنهم لم يولوا هذا المنهج الجديد عناية كبيرة ، فالحنابلة لم يتعرضوا له كعلم مستقل إلا في ثنايا جزئية في مباحث الأصول كالمناسب والمصالح المرسلة ، وكذا الشافعية كالحنابلة ، أما الحنفية فهم أشد بعداً من الحنابلة والشافعية ، فلا تجد حنفياً يعول على علم المقاصد ، بل في طرقهم للقياس كمصدر من مصادر التشريع ، نبهوا أنهم إنما احتجوا بالقياس لأن فيه ما يشهد لصحته ويحصنه ويحميه من الخطأ وهو (العلة) الوصف الظاهر المنضبط ، التي جعلوها (كالحارس ) الذي يحمي المحتج بالقياس ، ولو تأملنا لحال المقاصد نجد أن (الحارس) الذي وضعه السادة الحنفية لا يعمل في الاستنباط المقاصدي إذ إن المقاصد عبارة عن مصالح عامة ولا تنسجم مع الضوابط والشروط التي في العلة ، لذا فالعلة تنكسر هنا فلا حارس ولا شاهد يجعل الحنفي يبنى لهذا الطريق قوانيناً ، فضلاً عن أن يبني عليها فروعا وأحكاما .
قد تقول أين المالكية فأقول المذهب المالكي هو أسعد المذاهب حظاً في المقاصد ومع هذا فالمشتغلين به قلة وتتباعد وشائج الاتصال الزمانية بينهم فكم بي الشاطبي وابن عاشور من الدهور، فكيف سيقوم بناؤه والمذاهب الأربعة هذا حالها معه؟ لذا فلازال الفكر المقاصدي ضعيفاً ، فهو وإن كان قائماً إلا أنه ليس مقاوماً .
ونبدأ في هذا السرد التأريخي الذي هو عبارة عن تراكمات وفوائد واستنتاجات أفادها العبد الفقير ، معترفاً بالنقص والتقصير ، فرحم الله قارئاً وجد خيراً فقال ، ووجد خطأ فأقال ،،،
والله أسأل أن يوفقنا لعلم نافع مثمر ، وأجر صالح مستثمر ، يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم .

:::::::::::::::::::::::::::: والآن نترككم مع المراحل والأطوار :
(( ماقبل التدوين ))::::: ((ومابعد التدوين ))::::::::::::::::

جديد المقالات

موقع أصول الفقه