ما بعد التدوين ...

المقال

ما بعد التدوين ...

4595 | 01/10/2009
تمهــــيد :
والناظر في المرحلة السابقة يجد أن الأمر لم يحن بعد وأن الفرصة لم تكن مهيأة للتوصل الى تدوين وتقعيد علم أصول الفقه ، كيف لا وكل جامعة لا تزال شبه منغلقة على نفسها ، ومتحيزة لمنهجها الفقهي الاستنباطي ، وكما قيل المتحيز لا يميز ، وهذا ما نبه عليه الأمامان أحمد وابو حاتم رحمهما الله كما سيأتي قريباً .
فالناظر بعين استنباطية فقهية واحدة لن تكون لديه النظرة القوية والواسعة والتي يجتمع فيها التمسك بصحيح المنقول مع سليم وصريح المعقول .
إن جامعة الحديث وحدها أو الرأي وحدها لا تستطيع النهوض بعلم أصول الفقه الذي لابد فيه من اجتماع ركني المعرفة النقل المعصوم ، والعقــل الصحيح .

الجانب الثاني : (( بعد التدوين والتأليف ))

وتتركز في مراحل أربعة :
المرحلة الأولى : بداية تكوين تدوين علم الأصول :
قويت العلاقة بين الجامعتين ، وحصل التلاقي بين مدرستي أهل السنة والجماعة ، وتلاميذ ابن عمر وابن مسعود ، وتوثقت العلاقات على يدي إمام وعالم قرشي مطلبي – الإمام محمد بن إدريس الشافعي - الذي جمع بين الحديث والرأي حيث تتلمذ على يد إمامي كل جامعة في عصره : الإمام مالك و الإمام محمد بن الحسن الشيباني ، يقول ابن حجر : انتهت رياسة النقل والفقه بالمدينة الى مالك بن انس فرحل اليه ولازمه واخذ عنه ، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى ابي حنيفة فاخذ عن صاحبه محمد بن الحسن .
ولم يكتف الشافعي بهذا التنوع المعرفي والفقهي ، بل اعتنى برافد آخر يمكن من الفهم الدقيق للألفاظ ويمهد للتأليف والتصنيف لعلم الأصول ، هذا الرافد هو اللغة العربية يقول عن نفسه رحمه الله : ( إنني خرجت من مكة فلازمت هذيلاً بالبادية أتعلم كلامهم وآخذ طبيعتهم وكانت أفصح العرب ، أرحل برحيلهم وأنزل بنزولهم ، فلما رجعت الى مكة جعلت انشد الأشعار وأذكر الأدب والأخبار).
فسبحان الله الذي هيئ هذا الامام ويسر له كل هذه الملكات التي تمكن من التقعيد والتأصيل للقواعد التي تبنى عليها الاحكام الشرعية والتي تحفظ الدين من الارتباك والتضارب في احكامه .
ولما كان أصول الفقه عبارة عن تلاقي وازدواج بين النقل والعقل قال الغزالي : ( أشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع ، والفقه وأصوله من هذا القبيل ، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل ، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول ، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لايشهد له العقل بالتأييد والتسديد ) لذا فالشافعي هو من يستطيع أن يصنف علم الأصول ويجمع قواعده وقوانينه لما تحصل له من التتلمذ على الجامعتين -الحديث والرأي- فألف أول مؤلف متخصص وجامع لعلم الاصول والاستنباط : (( الرسالة )) : حيث طلب منه عبدالرحمن بن مهدي –من علماء الحديث في بغداد – أن يرسل له كتابا في شرائط الاستدلال وضوابطه ، فألف الرسالة ، ثم كتبها مرة اخرى وهو في مصر .
وعليه فأول من ألف وصنف علم الأصول هو هذا الامام بعد ان نهل علوم الدين من منابع صافية ، لم تتعكر بما في عصره من بدع ومحدثات وأهواء ، فجمع قواعد الاستنباط كما كانت عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأصبح هذا عاملاً رئيساً في حفظ الدين بحفظ الله تعالى ،كما رد الشافعي طرق اهل البدع والكلام فقال : ( حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا منسكين ،و يطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال :هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام ).
كان الشافعي يرى أنه من جامعة الحديث ، ويناظر أهل الرأي في فقه الحجازيين ، ويطلق على مالك لقب الأستاذ ، لذا سطر له أهل الحديث أعظم التزكيات ، وبينوا النقلة العظيمة التي أحدثها الشافعي لجامعة الحديث فيقول الإمام احمد : ( لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث ) ، ويقول أبو حاتم الرازي : ( لولا الشافعي لكان أصحاب الحديث في عمى ) ، بل عدوه مجددا للدين في المائة الثانية يقول أحمد بن حنبل : ( يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عزوجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة رجلا يقيم لها أمر دينها ، فكان عمر بن عبدالعزيز على رأ س المائة الأولى ، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى ) .
ويبدو أن من الدوافع التي دعت الشافعي للتأليف في علم أصول الفقه دافع التأليف والتقريب بين جامعتي الحديث والرأي وهو أحق من يقوم بهذا الدور أعني : علم الأصول من جهة : أنه يكشف صحيح الأقوال من ضعيفها مما يسهل الوصول للحق لطالبيه ،
وكذا الشافعي من جهة : كونه تتلمذ عند أئمة الجامعتين وسبر أغوارهما، واستفاد منهما ، فلعله بهذا يكون قد رد الجميل والمعروف لهما .

**********************************************
المرحلة الثانية : (( بدأ الحنفية في التأليف بعلم الأصول :
ثقل على أهل الرأي أن سبقهم أهل الحديث بالتأليف في علم أصول الفقه على يد الشافعي مما جعلهم يقبلون على التأليف في هذا المجال، بدأ الأحناف بجمع وتأليف بعض الرسائل استدراكاً لما فاتهم إلا إنهم وقعوا في ضيق وحرج كبيرين : لكون أئمتهم لم يقعدوا قواعد المذهب ولم يؤلفوا في الأصول –كما عند أهل الحديث- فثقل ذلك على أتباعهم ولم يكن لهم إلا أحد طريقين : الأول : فإما أن يؤلفوا على طريقة الشافعي بالتأصيل لقوانين الاستنباط من الادلة العامة مباشرة ، وميزت هذا الجانب أنه لو تمّ لحسم الخلاف في الأمة ، فيحصل الاجتماع على منهج واحد ، لكن سيؤدي الى انقراض وانتهاء فقه أهل الرأي و أئمته كأبي حنيفة وابي يوسف وابن الحسن ، فيلحق بفقه بقية الأئمة الذين لم تقعد قواعد مذاهبهم ، الثاني : إما أن يقعدوا الأصول مع الحفاظ على فقه أئمتهم ، وهذا هو الطريق الذي مشوا عليه ، ولكونهم معتمدين على الرأي لا على الحديث، ومعلوم أن أصول الفقه لا يقوم إلا على مجموعهما فحينها جعلوا بينهم وبين الأدلة واسطة وهذه الواسطة هي فتاوى أئمتهم ، فالواسطة ستكون بين الأدلة والقاعدة الأصولية , لأنهم لو أخذوا القواعد من الأدلة ـ كالشافعي ـ لخرجوا عن المذهب الحنفي ، فتحصل لهم الأصول مع بقاء فقه الرأي ، فكأن ركني القاعدة الأصولية الحنفية : ( دليل + فتوى الأئمة ) .

*********************************************************
المرحلة الثالثة : (( اكتمال ونضج علم أصول الفقه )) :
** بعد المائة الرابعة : اكتملت أبواب ومباحث ومسائل علم الأصول ، فعكف علماء هذه الفترة فدرسوا الرسالة وفككوا رموزها وحللوها تحليلاُ علمياُ فأخرجوا كتباً أكملت علم الأصول على مباحثه العـامة ، وما جاء بعدها من مؤلفات فمدارها على ما ألف في هذه المرحلة ، فألف ابن السمعاني كتابه : قواطع الأدلة – والذي حرص مؤلفه على : محاولة تجريد علم الأصول عن ما أدخل فيه من المباحث الكلامية والقضايا المنطقية التي لا علاقة لها بعلم الأصول فقال : ( وقد رأيت بعضهم قد أوغل-في حقائق الأصول- وحلل وداخل ، غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل ، وسلك طريق المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه ، بل لا قبيل لهم فيه ولا وفير ولا نقير ولا قطمير ، ومن تشبع بما لم يعطه فقد لبس ثوبي زور ، ودعاة السوء قطاع لطريق الحق ، وصم عن سبيل الرشد وإصابة الصواب ) ،
وقد أشار ابن خلدون أن في هذه المرحلة ألفت أربع كتب -على طريقة الشافعية- تعدّ عمدة لمن ألف فيما بعد ، هذه الكتب :
1-العمد ـــــــ للقاضي عبد الجبار .
2-المعتمد ـــــــــ لأبي الحسين البصري .
3-البرهان ـــــــــ للجـوينـي .
4-المستصفى ــــــ للغـــــزالي .
** بعد هؤلاء الأربـعـة جــاء :
كتاب: المحصول ( للرازي ) – ويعني كثيراً بالادلة على المسائل ومناقشاتها -
كتاب: الإحكام ( للآمدي ) – ويعنى بالأقوال وتحريرها-
وهما بمثابة اختصار وجمع ودراسة لما في الكتب الأربعة المتقدمة.
** وكتاب الإحكام جاء ابن الحاجب ليختصره في < مختصر ابن الحاجب> وأفضل شروح المختصر : شرح العضـــد .
** والمحصول اختصره البيضاوي بمختصر : < المنهاج > وأفضل شروحه : نهاية السول - للأسنوي -
** كتاب روضة الناظر أفاده مؤلفه من (( المستصفى للغزالي )) .
** ابن السبكي ألف مختصره المعروف : ( جمع الجوامع ) جمعه من مائة كتاب لذلك سمي جمع الجوامع .
** البحر المحيط للزركشي يعد من أفضل الكتب في الأصول .

*************************************************
المرحلة الرابعة : استقلال علم المقاصد عن علم أصول الفقه :
إن علم الاصول يعنى بالدرجة الاولى بألفاظ التشريع ، وكان يتضمن في بعض مباحث القياس معاني واسرار وحكم التشريع بشكل مقتضب ، ويدرس ويبحث بشكل موجز في كتب الاصول ، من هنا جاء علم المقاصد فاستقل بهذا الجانب – جانب اسرار الشرع وحكمه ومقاصدة – فأشبعه بحثاً ودراسة وتأصيلا كما أشار ابن عاشور ، فهذه المرحلة شهدت وبداية تكوين وتدوين علم المقاصد على يد العز بن عبدالسلام وكتابه : قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، واستوى هذا العلم على سوقه عندما جاء الشاطبي فألف : < الموافقات > والذي أراد به مؤلفه أن يوافق ويجمع ويؤلف بين جامعتي الرأي والحديث ، لكون نظريات المقاصد أمور قطعية يتفق عليها كلا الجانبين ، وذكّرنا فعل الشاطبي هنا بما تقدمت الإشارة اليه من صنيع الشافعي عندما ألف في الأصول وقلنا لعله اراد من ذلك التوفيق بين الرأي والحديث .
هذه المراحل يبدو لي أنها أهم المحطات التاريخية التي مرّ بها علم الأصول ، والتي باستيعابها ورصدها تقريب وتسهيل وتمهيد لمن أراد دراسة هذا العلم الجليل دراسة جدّية نافعة ، والحمد لله أولا آخرا .

** كتبه : يوسف بن هلال
(1428هـ)
****************************

جديد المقالات

موقع أصول الفقه